فارس، شمس، نوال، منى، عمر، هند، كاميليا، يوسف، رمزي، تلك هي فقط بعض من نماذج شخصيات قدمها لنا المخرج الكبير محمد خان في أفلامه المتنوعة عبر رحلة بديعة امتدت لما يقرب من أربعين عاما. رحل محمد خان عن عالمنا في هدوء شديد يتناقض تماما مع حالة الصخب والضجة التي امتلأت بها أفلامه. لم يخل فيلم من أفلامه تقريبا من أصوات الناس العالية في شوارع القاهرة أو ضوضاء الأتوبيسات والعربات والتكدس المروري أو الضحكات الصاخبة في البيوت أو الخناقات بين البشر في الحارات والميادين أو زعيق الذين فقدوا عقلهم وأصابتهم لوثة بينما هم يهيمون على وجوههم في متاهة المدينة. بمعنى آخر، تميزت أفلام خان بمصريتها الشديدة في الصور التي نقلها لنا، فلقد تعمق بشكل فريد في تفاصيل الحياة اليومية للمصريين، وخاصة سكان المدن، وبالتحديد مدينتي القاهرة والاسكندرية، على الرغم من ولعه أيضا بالريف والحياة في القرية المصرية كما نرى مثلا في فيلم “خرج ولم يعد" (1984). فكأنما أراد خان أن يصور المدينة كشاهد على الأحداث٬ شاهد ينبض بالحياة، يحس ويوثق بل يتغير مع مرور الزمن.
سينما ذات بُعد عالمي
وعلى مدار رحلته السينمائية، أخرج لنا خان من رحم مصر شخصيات فريدة في مصريتها، وصوّر مواقف ربما لا تحدث إلا في مدينة مصرية، حيث تشهد على ذلك الحوارات في أفلامه، لقطات الشوارع، الضحكات والتعليقات الساخرة، والحياة اليومية للمصريين. وعلى الرغم من هذه الخصوصية لصورة المواطن المصري المعاصر، إلا أن سينما خان تميزت أيضا بإنسانيتها المرهفة مما يجعلها سينما لها بُعد عالمي من حيث القيم والمشاعر التي عبرت عنها وقضايا الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي انحازت إليها. فمثلاً من التيمات الأساسية التي تتكرر بوضوح في أفلام خان إساءة الرجل لزوجته وضربه لها وفرض هيمنته الذكورية عليها، حيث نجد هذا التمثيل بتنويعات عديدة في أفلام مثل “طائر على الطريق” (1981)، "موعد على العشاء" (1982)، "الحريف" (1983)، "زوجة رجل مهم" (1988)، "أحلام هند وكاميليا" (1988)،"الغرقانة" (1993)، مما لا يدع مجالاً للشك من أن خان كان مهموماً بشكل هائل بقضايا الجندر والتركيب الاجتماعي والقيمي لمفاهيم الرجولة والأنوثة في المجتمع المصري، بما في ذلك هيمنة الزوج على زوجته وعنفه الجسدي ضدها. ونحن نعلم أن قضايا العنف الأسري تلك ليست مقتصرة على مصر ولكنها موجودة في كل دول العالم شرقاً وغرباً، فهي إذاً قضية عالمية. وبذلك فعندما يسلط خان الضوء عليها بل ويطرح تساؤلات بشأن أسبابها ومدى انتشارها في الأسرة المصرية، فهو يفعل ذلك من خلال تصوير مشاعر تلك المرأة التي يمكن لأي مُشاهد في الدنيا أن يحس بها ويتعاطف معها بل ربما يحاول أن يجد لهذه المسألة حلاً في محيطه الاجتماعي. فنراه مثلاً يهدي فيلم "موعد على العشاء” إلى “نوال”، وهو اسم البطلة (سعاد حسني)، وكأنه بذلك يعلن مساندته لقضية هذه الـ”نوال” وكل من جاراها في سعيها للتحرر من زوجها المتسلط الذي دمر حياتها فما كان منها إلا أنها تضطر هي أيضاً للقضاء عليه، والبادي أظلم. ربما يكون المشهد (العشاء) الأخير في هذا الفيلم صادماً للمُشاهد ونحن نرى نوال وطليقها (حسين فهمي) يأكلان الطعام الذي طبخته نوال بيديها ثم أضافت السم لـ”طبق المسقعة”، الأكلة المفضلة لذلك الرجل المستبد الذي قتل زوجها (أحمد زكي) وحرمها من الحب الأوحد في حياتها؛ وكأن خان أراد أن يطرح تساؤلاً على المُشاهِدة: ماذا أنتِ بفاعلة إن كنتِ في مكان نوال؟
وهكذا، وبهذه اللغة السينمائية الواعية، وفي إطار رصده للتحولات الجذرية التي مرت بها مصر من حقبة سبعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، طرح خان في أفلامه قضايا ذات أبعاد سياسية واجتماعية وأخلاقية من عمق المجتمع المصري وحتى آخر أفلامه "قبل زحمة الصيف" في العام الماضي. ومن أجل أن يتقصى ويتتبع التطورات التي تحدث للشخصيات الرئيسية في أفلامه، فنراه يلجأ إلى مفهوم أو مجاز "الرحلة"، بمعنى أننا عادة ما نجد مصير الشخصية يتشكل على مدار زمن القصة وكأن ذلك الرجل أو تلك المرأة في رحلة عبر الزمن بكل ما يمكن أن يحمله لنا الزمان والمكان من مفاجآت أو مواقف أو تحديات. فمثلاً عندما يصل "شاكر" (يحيى الفخراني) في فيلم "عودة مواطن" (1986 إلى مصر بعد غياب ثماني سنوات عمل قضاها في الخليج ثم يُصدم من كم التحولات الهائل الذي ألمّ بالمجتمع المصري جراء سياسات الانفتاح الاقتصادي، وخاصة التغيرات في العلاقة بين الرجل والمرأة وفي النظام القيمي والأخلاقي للأفراد، يقرر الرحيل بعد مروره بتلك "الرحلة" الإنسانية. فلقد عاد شاكر من الخارج لكي يمر بمشوار أعمق انسانياً في بلده مصر وهو بين إخوته وفي بيت العائلة، فهو عندما عاد أحس بأنه غريب في وطنه؛ ومن هنا يواجهنا خان بسؤال وجودي عن رحلة شاكر المرتبكة: هل يرجع من حيث أتى أم يظل في مصر؟ وكأن المخرج ذاته لم يستطع الإجابة عن هذا السؤال الصعب، فنرى شاكر في المشهد الأخير من الفيلم جالساً في حالة من الشرود والصمت في صالة الركاب بمطار القاهرة بعد أن أقلعت الطائرة التي كانت ستقله إلى الخليج بدونه..
أعتقد أن مخرجنا الكبير كان شغوفاً بهذا المعنى العميق والمجازي لماهية الرحلة عبر الزمن للإنسان المصري المعاصر، وما يفعله الوقت بنا، ونوع الاختيارات التي تُفرض علينا مع تغير نمط الحياة الاستهلاكية وتحكم القيم المادية في مصائرنا، وهو الذي له الأثر الأكبر بطبيعة الحال على سلوكنا. وربما قد أثر هذا الشغف الشديد بمشروع الرحلة عند خان على اختياره لعناوين أفلامه والزمن السردي لحكاية الفيلم. فعناوين أفلام مثل “طائر على الطريق”، “خرج ولم يعد”، “عودة مواطن”، “مشوار عمر”، “يوم حار جداً”، تشير إلى علاقة مباشرة مع رحلة زمنية ما، حتى أن خان قد أطلق على نفسه لقب “مخرج على الطريق” وهو عنوان كتابه الصادر مؤخراً عن دار الكتب في ٢٠١٥. وبالتالي فإن مضمون العديد من أفلام خان وبناءها السينمائي جاآ لكي يخدما هذه الفكرة، رحلة الانسان، سواء رجل أم امرأة في مراحل عمرية مختلفة ومن طبقات اجتماعية مختلفة، في الحياة المصرية الحديثة. ومما ميز أسلوب خان أيضاً الموتيفات التي استخدمها لكي تعمق لدى المشاهد رمزية ومغزى الرحلة في حياة الشخصيات. فمثلاً نرى فارس (أحمد زكي)، سائق التاكسي البيجو الأبيض في فيلم “طائر على الطريق”، يسافر من الإسكندرية عدة مرات لكي يوصل الزوجين فريد شوقي وفردوس عبد الحميد إلى العزبة التي يقطنان بها في الإسماعيلية، في رحلة مصيرية تنتهي نهاية مأساوية بعد أن يقع فارس في حب الزوجة ونراها تبادله نفس الشعور بالرغبة والعشق ثم تحمل منه، فينتقم منها الزوج، ويتعرض فارس لحادث في المشهد الأخير ولا نعلم إن كان سيعيش أم لا. فذلك "الطائر على الطريق" قد وقع في غرام امرأة متزوجة عندما أحس بالحرمان من الحب الذي تعاني منه مع زوج فظ متسلط يسيء معاملتها، وهي قد طلبت منه الطلاق ولكنه استمر في إهانتها وإذلالها حتى النهاية. مرة أخرى يجد المشاهد نفسه أمام سؤال صعب من أسئلة خان: ماذا كنت ستفعل إن كنت تمر برحلة الحب هذه؟ استخدم خان في الكثير من أفلامه لعبة “ركوب الطريق” أو “السفر” أو التنقل بالسيارة في الشوارع أو من مدينة إلى أخرى أو من بلد إلى آخر، بداية بـ “ضربة شمس” ومروراً بـ “الحريف” و”يوسف وزينب” و”خرج ولم يعد” و”مشوار عمر” و”فارس المدينة” و”مستر كاراتيه” و”يوم حار جداً” و”في شقة مصر الجديدة” مما يجعل خان أحد أهم مخرجي أفلام “الطريق” أو road movies في مصر والعالم العربي. ومما يعطي هذه النوعية من الأفلام مغزى خاصاً هو ارتباطها بالواقع المعيش وحداثة الأماكن وأسلوب الحياة. فأفلام خان في معظمها تتعرض لأحداث وشخصيات آنية يمكن أن نتفاعل معها في حياتنا الحاضرة، فخان مثلاً لم يقدم أي أفلام تاريخية (ربما باستثناء فيلم “أيام السادات” إذا اعتبرناه عملاً يتعرض لفترة تاريخية معينة) أو قصص مستوحاة من الأساطير القديمة، حيث أن أفلامه تشير بوضوح إلى أن اهتمامه انصب أساساً على اللحظة الآنية.
الاهتمام بتصوير الطبقة الوسطى
وفي هذا السياق ربما يكون خان قد انحاز كثيراً لدراسة وتشريح الطبقة الوسطى المصرية بشكل خاص، على الرغم من تناوله أيضاً لحياة وأحلام الطبقات الشعبية والعمال والعاملات كما في “الحريف" و“أحلام هند وكاميليا” و”فتاة المصنع”. ولكن أعتقد أن خان كان شغوفاً جداً بتصوير شخصيات من الطبقة الوسطى وتتبع مساراتها في الحياة، مثل الموظفين والشباب الذي تخرج حديثاً ولا يجد عملاً، وأصحاب المشروعات الصغيرة التي تفشل وتنهار، وربات البيوت من الأسر محدودة الدخل، والنساء العاملات في وظائف حكومية، وهي بالتحديد الطبقة التي جار عليها الزمن منذ السبعينات وحتى الآن، وشهدت تدنياً مذهلاً في شتى نواحي الحياة من تعليم إلى صحة إلى بطالة وتشرد، انتهت إلى قيام ثورة للمطالبة أساساً بالكرامة والعدالة الاجتماعية. لقد صور لنا خان في أفلام مثل “ضربة شمس”، “يوسف وزينب”، “خرج ولم يعد”، “عودة مواطن”، “فارس المدينة”، “سوبر ماركت”، “مستر كاراتيه”، “بنات وسط البلد”، و“في شقة مصر الجديدة” نماذج عديدة من الطبقة الوسطى المصرية ومعاناتها المستمرة عبر أربعة عقود من أجل تحقيق حياة كريمة بدون الاضطرار للجوء إلى السرقة أو النصب أو التحايل على القانون. حتى في فيلمه الجميل الأول “البطيخة” (1972) وهو فيلم قصير مدته عشر دقائق، يقدم خان نموذجاً شائعاً جداً لشخصية الموظف الحكومي الذي يذهب للعمل في الصباح وكل ما يشغل باله طوال ساعات العمل المملة هو كيف سيوفر مصاريف المعيشة خلال الشهر عندما يقبض مرتبه. ثم يتذكر أن زوجته وابنته قد طلبتا منه في الصباح أن يشتري بطيخة! يرجع الزوج إلى البيت في آخر النهار بالبطيخة والجرنال كأي موظف مصري تقليدي لطالما التقينا به في الشارع أو شاهدناه في الأفلام، وتصبح هذه البطيخة بمثابة “المكافأة” التي تحصل عليها الأسرة في نهاية يوم صيفي حار، حيث نشاهد أفراد أسرة الموظف في فيلم خان مجتمعين حول طاولة السفرة ويأكلون البطيخة بتلذذ شديد. وهكذا، ومن خلال كل تلك الصور الدقيقة لحياة المصريين وسلوكهم وعاداتهم في الأكل واللبس والعمل والحب والعلاقات، خاض بنا خان في مساحات شاسعة من المشاعر والانهزامات في الكثير من الأحيان عبر رحلة هذه الشخصيات، ولكنه حاول أيضاً أن ينتصر للحب ولمقاومة بعض شخصياته لإغراء المادة والتغلب على الضعف والشر. يقول خان في أحد أحاديثه التلفزيونية أن هناك أسباباً موضوعية تجعل الإنسان شريراً، فنحن لا نولد وفي جيناتنا الشر! وربما كان ذلك من أسباب اهتمام خان بعنصر “الجريمة” في أفلامه، حيث أنه يكاد لا يخلو فيلم في أعماله من جريمة ما، إما قتل أو نصب أو اغتصاب (كما في فيلم “الثأر" مثلاً) أو تهريب أو مخدرات. أعتقد أن خان كان يبحث بدأب وبشكل موضوعي في نفوس شخصياته وفي المجتمع ككل عن الأسباب التي تؤدي إلى ارتكاب جريمة من نوع ما. ومع ذلك، لم تكن أفلام خان في معظمها سوداوية على الإطلاق ولم تظهر شخصياته كئيبة وبائسة، فعلى العكس تماماً كان هناك دائماً شعاع من الضوء، أمل ما، تتمسك به الشخصية في محاولة لتحقيق الحلم بحياة حلوة مع الحبيب أو الصديق أو الأبناء، فالحياة في نهاية المطاف ليست نكداً خالصاً، والمصريون بالذات يتميزون بالفكاهة والضحك حتى في أحلك الظروف! وربما من أجل تحقيق هذا التوازن بين قسوة الواقع وجمال الحلم، لعبت الموتيفات الموسيقية دوراً بارزاً في أفلام خان، فنراه كثيراً ما يهدي الفيلم لذكرى أحد المطربين أو لزمن فنان أو فنانة، فقد أهدى فيلم “زوجة رجل مهم” لزمن عبد الحليم حافظ، وفيلم “فارس المدينة” إلى "أصالة وصوت أم كلثوم"، وفيلم “في شقة مصر الجديدة” لليلى مراد “صوت الحب لكل الأجيال”، وفيلم "فتاة المصنع” لذكرى سعاد حسني. كما نتابع في فيلم “سوبر ماركت” عشق شخصية رمزي (ممدوح عبد العليم) لموسيقى بيتهوفن ويصبح عزفه على البيانو بمثابة محاولة للتمرد على الماديات التي سيطرت تماماً على حياة البشر. لقد كانت الموسيقى أداة طورها خان سينمائياً من أجل ترسيخ حبه للحياة والأمل والحلم.
بالتأكيد كانت أفلام خان سياسية في انحيازاتها وتوجهاتها، حيث أننا نرى شخصياته تعيش في ظل أنظمة يعتريها الفساد والقهر، وهي سواء في مقاومتها أو ترسيخها لهذه العلاقات الاستبدادية إنما ترسم ملامح شديدة الخصوصية للمجتمع المصري. من ناحية، أعتقد أن قضايا الفساد السياسي والاجتماعي والجرائم المنتشرة في المدن وقوة سلطة المال والنفوذ الوظيفي التي حاول خان تعريتها وانتقادها هي ما أضفت على سينماه ذلك الطابع المصري؛ ومن ناحية أخرى نجد في المزاج العام لشخصياته وتصرفاتها وجوهاً واقعية كأنها مرايا تعكس “حالة” يمكن أن نصفها بأنها مصرية خالصة. سوف تظل سينما خان معبرة عن أحداث وتحولات وقعت في العقود الأربعة الأخيرة، ومن هنا ينبع تأثيرها ومكانتها في تطور السينما المصرية.
وداعاً محمد خان...